ضمير الشعب
صفحة 1 من اصل 1
ضمير الشعب
....... ضمير الشعب .......
- أرجوك ليس الآن .. إنه ليس الموعد المناسب كي تنام .. إنه أوان الاحتفال و توزيع الجوائز .. و الفيء عليكم نخبة الجزائر و أسد الجبال ....
- لا بل أرجوك اتركيني أنام ... يا فاطمة .. ، سبع سنوات لم أذق فيها حلو المنام ... دعيني أخلد للراحة .. أنا الآن مطمئن على الأمانة فقد سلمت لأصحابها ...
أنا لا أريد شيئا غير أن أخلد للراحة فوق الأرض كما يخلد الشهداء للنوم تحتها .. أليس بقدورهم أن يعيشوا دوننا حتى بعد أن افتككنا لهم الاستقلال ... أليس باستطاعتهم أن يأكلوا و يعيشوا بأمان .. دون صراع و خلاف على مائدة الحرية ...؟؟
أرجو ألاَّ أفجع حين أصحو و أجدهم .. قد بدلوا الميثاق الذي تواثقنا عليه و الذي من أجله صبرنا على أكل البطم و العشب في الجبال ... أرجو ... أرجو .. ذلك يا فاطمة ، و الآن أرجوك دعيني أنام بسلام ... .
هكذا أنهى عمي " راشد " لزوجته لالا فاطمة المجاهدة المحتسبة في صبيحة الخامس أغسطس عام 1962 ، قبل أن يخلد إلى غيبوبته الطويلة التي استغرقت أربعين عاما ..
فهذا رجل مشهور عنه النوم الطويل الذي يستغرق سنينا ... حيث يتوقف في جسده كل شيء غير أنفاسه الخفيفة المترددة و التي لا تكاد تحس لها ترددا دون إنصات . كانت آخر نومة له عقب حوادث 08 ماي 1945 ، أيامها فتك وحده بمائة رومي عدّوا من المفقودين ،ى بضراوة و وحشية شديدة انتقم لخيرة شعبه من خيرة أبناء فرنسا ... ثم افتقد ..
دخل مغارة من مغارات قسنطينة لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها .. و لم يسمع له من خبر في الحضر إلا بعد اتفاقية " إيفيان " .. حيث أشيع عن سيدي راشد أنه في الجبال .. كجندي مجهول دون هوية .. تدعوه فرنسا " المقاتل الشبح " ... عيب أن تقع له رصاصة على الأرض إن أطلقها ، و محال على رتل صادفه النجاة ... الموت الزؤام يمشي على رجلين .. العاصفة النكراء التي لا تبقي و لا تذر إن استثيرت ...
يسبح في الجبال كالهدهد منفردا .. طويل الصلاة إن قام .. كثير الوجوم إن صمت .. لا يجالس إلا الصالحين و لا يزور غير الأولياء ....
يقولون أن عمره قرون .. و يشيعون أنه من سلالة " الخضر " خَضِر المقرب المشهور في الكتب السماوية و التاريخ بصاحب موسى ....
حدثت عنه لالا فاطمة .. قالت " .. كنت مع زوجي رابح بأعالي جبال الأوراس .. حين داهمنا يوما بعض جنود فرنسا .. افتكوا غلتنا قهرا .. قتلوا زوجي ثم ألحقوا به الحمار ....
بقيت أندب حظي ذاك المساء إلى وقت الأصيل ، حين هبت نسمة باردة .. عقبها شخص سي راشد يركب بغلة شهباء ...
واساني دون أن يمعن النظر في .. ثم اصطحبني إلى بعض الدواوير القريبة ، حيث أودعني عند أناس مزارعين طيبين .. ، لم يعد إلا بعد انقضاء عدتي .. حيث اصطحبني إلى شيخ الدوار أو الطالب .. و عقد قرانه عليَّ بمهر بسيط ...
من غرائب " سي راشد " كما حدثت لالا فاطمة .. أنه لا ميعاد لديه في الحضور .. و لا للغياب ...
كم من مرة كنت أتخيله إلى جواري .. و أنا أدرس سنابل القمح قرب الدار .. و أنا أجر " السطل " من البئر ... أتخيله إلى جواري .. بل أسمع ... وقع أقدام بغلته الشهباء على الحصى بالجوار .. أو فوق السحاب إذا مر، يا ليت أبناء هذا الشعب كلهم أمثاله
حين كنت أسأله أين يكون حين أفتقده .. يرد أنه في الغالب بالجنوب .. لأن فيه ما أتيح للنبي _ ص _ من مَناخ، حتى تروض أفكاره و يصحو حاله ، كثيرا ما قال لها أن سر هذا البلد هناك .. هناك بالصحراء .. مهد الحضارة و مهبط وحي السماء .. و الويل لهذا البلد إن لم يتدبر أمره من هناك ... و الويل لهم إن أضاعوا أهله .. أو إنتقصوهم ....
حين سألتها يوما أين وجهته بالصحراء .. كانت تقول .. " سقارة " .. ثمة يلتقي ببعض إخوانه من شتى بلاد الإسلام .. ثمة يجتمع الأقطاب الأربعة كل سنة .. يصلون و يتدبرون ...
أما موقع هذا المكان ... فقد فتشت عنه جميع البلاد فلم أعثر له على خبر ... فتشت الخرائط و سألت العارفين ، فلم يفدني أحد منهم بشيء .
قالت العجوز.. قد تكون بمنبسط من الأرض خفيض كما أخبرها .. و هي ربوة صغيرة مستديرة .. تقف منفردة كفوهة بركان ، إلا أن تكوينها يغلب عليه الطين الأحمر مع الكلس الأبيض يمسكه .. قال أنها الجزء المهم من عنصر آدم أب البشر .. و لم يحدد مكانها .. بالضبط
لولا أنه قدر محتوم على هذا الوطن أن يظل فيه الفرنسيون كل هذه الحقبة .. لأخرجناها أنا و رفقتي الأربعة في أجل لا يتعدى الثمانية أيام .. قال عمي راشد .. لكنه ابتلاء ... ابتلاء يا فاطمة .. كذلك الله قادر بما يشاء أن يُحق الحق في الأرض دون أي عناء أو لغوب .. لكنه يبتلي الناس بعضهم ببعض ليري ما يصنعون ..
إنها عقيدة يصعب على أمثالي و أمثال لالا فاطمة استيعابها .. و لا يفقهها غير الراسخين في العلم .
كان المكان الذي خلد فيه " سي راشد " للنوم آخر مرة بُعيْد الاستقلال، مغارة صغيرة قرب الكوخ .. كان يستعملها عمي رابح رحمه الله كما يبدو .. كأهراء للغلة .. القمح و الزيتون و المشمش المجفف .. و بعد أن أخلاها الفرنسيون من محتواها .. غدت خلوة عمي راشد المفضلة حين يحضر إلى عند .. لالا فاطمة.
بقي هناك .. نائما لسنوات .. كفتية أهل الكهف لا أحد يعلم بسره .
لم يبق للالا فاطمة بعد غياب عمي راشد في سباته الطويل من أحد سوى بغلته الشهباء .. شبه المأمورة .. فقد كانت هذه الأخيرة تقوم بكل شيء ، تحرث الأرض .. و تسقي الزرع .. و تنثره إذا بلغ به الحبور غايته .. ما كان من لالا فاطمة غير وضعه في الخرج .. أما نثره على الأرض فإنه يحدث بالتناغم مع إيقاعات رقصها ..
و جاءت تلك السنين العجاف .. أو العشرية السوداء كما يدعونها ، حيث ودع كل خِلِّ خِلَّه ... و قتل المجاهد ببندقيته .. و الفلاح بفأسه .. و شردت الشهباء تبغي اقتحام البحر هروبا بجلدها لهول ما عاينت ... .
كانت لالا فاطمة كلما رأت هبهابا مشتعلا يطير في الفضاء بين الجبال كالمجنون .. سارعت إلى الغارة لتوقظ عمي راشد ، لكن عبثا تفعل ...
تحترق أشجار الزيتون و المشمش الجبلي ، و عمي راشد يغط في نومه العميق لا تسمع منه غير .. دعيني أنام يا فاطمة .. دعيتي .. فالكوابيس التي تقض مضجعي تكفيني .. دعيني و إلا ستأتينني يوما و لن تجديني .. أتركي هذا المكان و أذهبي إلى واحة من واحات الصحراء و استعصمي هناك
إن كنت تريدين أن تريني ، فكما آوى الله نبيه إلى نخل سيأويك .. اذهبي يا فاطمة و ( خوذي الراي ) .. فإنك في الغد لن تجديني ...
لاح فجر اليوم التالي .. و لاح معه من بعيد رجال .. من هنا و رجال من هنا ... آخرون بزي عسكري يعفون لحاهم .. و آخرون ... مرد لم تتبين فحواهم ... نادت الشهباء .. بركة .. بركة .. و كان هذا اسمها .. بصيحة.. يائسة .. لكن ولت حين مناص ... هرولت إلى المغارة فلا أثر .. لراشد .. و لا عين .. و أولئك الأخلاط من الناس بسواطيرهم .. و فؤوسهم .. يقتربون و يقتربون .... !؟ .
تمت
بقلم خ. أحمد " م "
- أرجوك ليس الآن .. إنه ليس الموعد المناسب كي تنام .. إنه أوان الاحتفال و توزيع الجوائز .. و الفيء عليكم نخبة الجزائر و أسد الجبال ....
- لا بل أرجوك اتركيني أنام ... يا فاطمة .. ، سبع سنوات لم أذق فيها حلو المنام ... دعيني أخلد للراحة .. أنا الآن مطمئن على الأمانة فقد سلمت لأصحابها ...
أنا لا أريد شيئا غير أن أخلد للراحة فوق الأرض كما يخلد الشهداء للنوم تحتها .. أليس بقدورهم أن يعيشوا دوننا حتى بعد أن افتككنا لهم الاستقلال ... أليس باستطاعتهم أن يأكلوا و يعيشوا بأمان .. دون صراع و خلاف على مائدة الحرية ...؟؟
أرجو ألاَّ أفجع حين أصحو و أجدهم .. قد بدلوا الميثاق الذي تواثقنا عليه و الذي من أجله صبرنا على أكل البطم و العشب في الجبال ... أرجو ... أرجو .. ذلك يا فاطمة ، و الآن أرجوك دعيني أنام بسلام ... .
هكذا أنهى عمي " راشد " لزوجته لالا فاطمة المجاهدة المحتسبة في صبيحة الخامس أغسطس عام 1962 ، قبل أن يخلد إلى غيبوبته الطويلة التي استغرقت أربعين عاما ..
فهذا رجل مشهور عنه النوم الطويل الذي يستغرق سنينا ... حيث يتوقف في جسده كل شيء غير أنفاسه الخفيفة المترددة و التي لا تكاد تحس لها ترددا دون إنصات . كانت آخر نومة له عقب حوادث 08 ماي 1945 ، أيامها فتك وحده بمائة رومي عدّوا من المفقودين ،ى بضراوة و وحشية شديدة انتقم لخيرة شعبه من خيرة أبناء فرنسا ... ثم افتقد ..
دخل مغارة من مغارات قسنطينة لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها .. و لم يسمع له من خبر في الحضر إلا بعد اتفاقية " إيفيان " .. حيث أشيع عن سيدي راشد أنه في الجبال .. كجندي مجهول دون هوية .. تدعوه فرنسا " المقاتل الشبح " ... عيب أن تقع له رصاصة على الأرض إن أطلقها ، و محال على رتل صادفه النجاة ... الموت الزؤام يمشي على رجلين .. العاصفة النكراء التي لا تبقي و لا تذر إن استثيرت ...
يسبح في الجبال كالهدهد منفردا .. طويل الصلاة إن قام .. كثير الوجوم إن صمت .. لا يجالس إلا الصالحين و لا يزور غير الأولياء ....
يقولون أن عمره قرون .. و يشيعون أنه من سلالة " الخضر " خَضِر المقرب المشهور في الكتب السماوية و التاريخ بصاحب موسى ....
حدثت عنه لالا فاطمة .. قالت " .. كنت مع زوجي رابح بأعالي جبال الأوراس .. حين داهمنا يوما بعض جنود فرنسا .. افتكوا غلتنا قهرا .. قتلوا زوجي ثم ألحقوا به الحمار ....
بقيت أندب حظي ذاك المساء إلى وقت الأصيل ، حين هبت نسمة باردة .. عقبها شخص سي راشد يركب بغلة شهباء ...
واساني دون أن يمعن النظر في .. ثم اصطحبني إلى بعض الدواوير القريبة ، حيث أودعني عند أناس مزارعين طيبين .. ، لم يعد إلا بعد انقضاء عدتي .. حيث اصطحبني إلى شيخ الدوار أو الطالب .. و عقد قرانه عليَّ بمهر بسيط ...
من غرائب " سي راشد " كما حدثت لالا فاطمة .. أنه لا ميعاد لديه في الحضور .. و لا للغياب ...
كم من مرة كنت أتخيله إلى جواري .. و أنا أدرس سنابل القمح قرب الدار .. و أنا أجر " السطل " من البئر ... أتخيله إلى جواري .. بل أسمع ... وقع أقدام بغلته الشهباء على الحصى بالجوار .. أو فوق السحاب إذا مر، يا ليت أبناء هذا الشعب كلهم أمثاله
حين كنت أسأله أين يكون حين أفتقده .. يرد أنه في الغالب بالجنوب .. لأن فيه ما أتيح للنبي _ ص _ من مَناخ، حتى تروض أفكاره و يصحو حاله ، كثيرا ما قال لها أن سر هذا البلد هناك .. هناك بالصحراء .. مهد الحضارة و مهبط وحي السماء .. و الويل لهذا البلد إن لم يتدبر أمره من هناك ... و الويل لهم إن أضاعوا أهله .. أو إنتقصوهم ....
حين سألتها يوما أين وجهته بالصحراء .. كانت تقول .. " سقارة " .. ثمة يلتقي ببعض إخوانه من شتى بلاد الإسلام .. ثمة يجتمع الأقطاب الأربعة كل سنة .. يصلون و يتدبرون ...
أما موقع هذا المكان ... فقد فتشت عنه جميع البلاد فلم أعثر له على خبر ... فتشت الخرائط و سألت العارفين ، فلم يفدني أحد منهم بشيء .
قالت العجوز.. قد تكون بمنبسط من الأرض خفيض كما أخبرها .. و هي ربوة صغيرة مستديرة .. تقف منفردة كفوهة بركان ، إلا أن تكوينها يغلب عليه الطين الأحمر مع الكلس الأبيض يمسكه .. قال أنها الجزء المهم من عنصر آدم أب البشر .. و لم يحدد مكانها .. بالضبط
لولا أنه قدر محتوم على هذا الوطن أن يظل فيه الفرنسيون كل هذه الحقبة .. لأخرجناها أنا و رفقتي الأربعة في أجل لا يتعدى الثمانية أيام .. قال عمي راشد .. لكنه ابتلاء ... ابتلاء يا فاطمة .. كذلك الله قادر بما يشاء أن يُحق الحق في الأرض دون أي عناء أو لغوب .. لكنه يبتلي الناس بعضهم ببعض ليري ما يصنعون ..
إنها عقيدة يصعب على أمثالي و أمثال لالا فاطمة استيعابها .. و لا يفقهها غير الراسخين في العلم .
كان المكان الذي خلد فيه " سي راشد " للنوم آخر مرة بُعيْد الاستقلال، مغارة صغيرة قرب الكوخ .. كان يستعملها عمي رابح رحمه الله كما يبدو .. كأهراء للغلة .. القمح و الزيتون و المشمش المجفف .. و بعد أن أخلاها الفرنسيون من محتواها .. غدت خلوة عمي راشد المفضلة حين يحضر إلى عند .. لالا فاطمة.
بقي هناك .. نائما لسنوات .. كفتية أهل الكهف لا أحد يعلم بسره .
لم يبق للالا فاطمة بعد غياب عمي راشد في سباته الطويل من أحد سوى بغلته الشهباء .. شبه المأمورة .. فقد كانت هذه الأخيرة تقوم بكل شيء ، تحرث الأرض .. و تسقي الزرع .. و تنثره إذا بلغ به الحبور غايته .. ما كان من لالا فاطمة غير وضعه في الخرج .. أما نثره على الأرض فإنه يحدث بالتناغم مع إيقاعات رقصها ..
و جاءت تلك السنين العجاف .. أو العشرية السوداء كما يدعونها ، حيث ودع كل خِلِّ خِلَّه ... و قتل المجاهد ببندقيته .. و الفلاح بفأسه .. و شردت الشهباء تبغي اقتحام البحر هروبا بجلدها لهول ما عاينت ... .
كانت لالا فاطمة كلما رأت هبهابا مشتعلا يطير في الفضاء بين الجبال كالمجنون .. سارعت إلى الغارة لتوقظ عمي راشد ، لكن عبثا تفعل ...
تحترق أشجار الزيتون و المشمش الجبلي ، و عمي راشد يغط في نومه العميق لا تسمع منه غير .. دعيني أنام يا فاطمة .. دعيتي .. فالكوابيس التي تقض مضجعي تكفيني .. دعيني و إلا ستأتينني يوما و لن تجديني .. أتركي هذا المكان و أذهبي إلى واحة من واحات الصحراء و استعصمي هناك
إن كنت تريدين أن تريني ، فكما آوى الله نبيه إلى نخل سيأويك .. اذهبي يا فاطمة و ( خوذي الراي ) .. فإنك في الغد لن تجديني ...
لاح فجر اليوم التالي .. و لاح معه من بعيد رجال .. من هنا و رجال من هنا ... آخرون بزي عسكري يعفون لحاهم .. و آخرون ... مرد لم تتبين فحواهم ... نادت الشهباء .. بركة .. بركة .. و كان هذا اسمها .. بصيحة.. يائسة .. لكن ولت حين مناص ... هرولت إلى المغارة فلا أثر .. لراشد .. و لا عين .. و أولئك الأخلاط من الناس بسواطيرهم .. و فؤوسهم .. يقتربون و يقتربون .... !؟ .
تمت
بقلم خ. أحمد " م "
احمد خضران- في ضيافة المنتدى
-
عدد الرسائل : 3
العمل/الترفيه : كاتب للقصة القصيرة
المزاج : معتدل
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 23/03/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى